لا تزال مصر والمنطقة العربية أسيرة تداعيات خطوات الرئيس أنور السادات في عملية السلام في سبعينيات القرن الماضي، ومبادرته التي بدأها بزيارة القدس وصولاً إلى توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل عام 1979.
وقد استعرض إسماعيل فهمي وزير الخارجية المصري بين عامي 1973 و1977، رؤيته في عملية السلام في كتابه «التفاوض من أجل السلام في الشرق الأوسط»، لا سيما وأنه تولى المسئولية في فترة عاصفة بدأت بحرب أكتوبر وانتهت بقرار زيارة السادات للكيان العبري.
صدرت هذه المذكرات عام 1985، أي بعد رحيل السادات بسنوات، ومن ثم لم يكن الكاتب مضطراً لمراعاة مجاملته وعدم إغضابه، وأشرك القارئ معه في تفاصيل كواليس هذه الفترة العصيبة، وأزاح الستار عن كثير مما تم إخفاؤه بخصوص المفاوضات مع الإسرائيليين.
ويكاد يتطابق كلام فهمي وتحليلاته مع وزير الخارجية الذي تلاه، محمد إبراهيم كامل، في مذكراته أيضاً، وانتهى به المطاف إلى نهاية شبيهة، واشترك كلاهما في السخط الشديد على طريقة إدارة السادات للدولة وخصوصاً عملية السلام التي قدمت فيها مصر تنازلات فاقت حدود توقعات العدو نفسه.
والفكرة المحورية لمذكرات فهمي هي نقد مبادرة السادات بالذهاب إلى العدو، وفي سبيل ذلك يستعرض في مئات الصفحات مجريات السياسة الخارجية لمصر في سنوات وزارته الأربع. ويتطرق فهمي إلى ما كتب عن هذه الفترة، خصوصاً مذكرات الرئيس السادات نفسه والقادة الإسرائيليين، وينتقد السادات متهماً إياه بأنه يخترع قصصاً، أو يمطها حتى تصبح بعيدة كثيراً عن الحقيقة، وأن ما يقوله كان يعتمد على المناسبة أو على المستمعين. وينطبق هذا على رحلته إلى القدس، بسبب خشيته من أن يقول لرؤساء الدول في العالم العربي ولمواطنيه في مصر حقيقة ما حدث بالفعل والتنازلات التي قدمها.
ويؤكد فهمي أن السادات لم يدرك أن الحقائق لا يمكن حفظها سراً إلى الأبد؛ فالنظم السياسية بالدول المعنية تطلب التسجيل الكامل والدقيق لكل الأحداث السياسية، ليتم تقديمها إلى المؤسسات السياسية، ولا ريب أدرك السادات هذا إلا أنه أظهر تجاهلاً رهيباً لما ستتركه الحقيقة عند كشفها، من تأثيرات سيئة على الثقة في ما قال، ليتحول –وفق فهمي- إلى «سجين لأساليبه الخاصة، ولشخصيته المزدوجة، إلا أنه في النهاية كان يسعى لمجرد إرضاء ذاته».
عمل فهمي كدبلوماسي في الأمم المتحدة، وساعد على إنشاء وكالة الطاقة النووية الدولية في فيينا، وعين في ما بعد محافظاً في مجلس إدارتها، وكان سفيراً لدى النمسا حين توفي عبد الناصر عام 1970، وبقي في هذا المنصب حتى 1971، وبقي عدة سنوات خارج الدائرة الداخلية للسادات، وتم تعيينه وكيلاً لوزارة الخارجية دون أن يلتقي الرئيس سوى في مناسبة عامة.
وفي مايو 1972، حضر ندوة نظمها مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية لمناقشة اجتماع القمة المرتقب بين الأمريكان والسوفييت، على ضوء قرار الولايات المتحدة بحصار ميناء هايفونج في فيتنام، ودعي للمشاركة في الندوة مثقفون مصريون من مؤسسات حكومية وغير حكومية.
وكان الرئيس السادات قد فشل في الوفاء بوعده بأن يكون عام 1971 هو عام الحسم، وواجه انخفاضاً متزايداً في شعبيته، وكان الوضع الاقتصادي سيئاً، وكان عناد إسرائيل يمنع التقدم نحو السلام، وأحرج السادات أكثر من مرة لتردد الاتحاد السوفيتي في تزويد مصر بالسلاح الكافي لتحرير الأرض المحتلة، وكانت الأولوية القصوى في الساحة الدولية في ذلك الحين هي فيتنام، بينما كان الشرق الأوسط ذا أهمية ثانوية على الرغم مما يسببه من توترات.
خلال الندوة طالب فهمي بعدة نقاط أبرزها أن مصر عليها القيام بعمل عسكري لإقناع إسرائيل والرأي العام العالمي بأن الوقت قد حان لحل الصراع، ويجب أن يستخدم البترول كسلاح، ويتعين إعادة تقييم العلاقات مع السوفييت، وأن تكون لمصر صلات مع الولايات المتحدة. وكان لهذه الندوة أثر كبير؛ فقد جذبت اهتمام السادات إلى فهمي مما أدى في النهاية إلى تعيينه وزيراً للخارجية.
حتى ذلك الوقت كان عمل فهمي في الخارج -طوال عهد عبد الناصر- ولم يقابل السادات شخصياً أبداً، على الرغم من أن بعض أعضاء مجلس الثورة كان يمكن أن يستدعيه للقاهرة في بعض الأحيان ليستشيره في أمر ما، وطلب منه أحدهم حين عين في منصب مهم أن يعود إلى القاهرة ويصبح مساعده الشخصي للشئون الخارجية لكنه رفض بسبب تحفظاته على نظام عبدالناصر.
يطرح فهمي رؤيته عن نكسة 1967، مبيناً أن من الأسباب الرئيسية للهزيمة أن عبدالناصر كان يخشى تماماً وجود جيش قوي خشية عدم السيطرة عليه، ولهذا شجع وجود منافسات داخلية، وأنشأ عدة مراكز للقوى داخل القوات المسلحة، وربما ساعده ذلك على البقاء في السلطة، لكن كانت النتيجة بحلول عام 1967 أن أصبح الجيش المصري مؤسسة سياسية وليس آلة حرب محترفة.
وطلب عبدالناصر سحب قوات الأمم المتحدة من الحدود ورفض كل التحليلات العقلانية، واتخذ وحده سلسلة قرارات غير عقلانية، وكان التأثير الإجمالي لهذه القرارات أن اتخذت الأحداث دفعة ذاتية، وأصبح من المستحيل على عبدالناصر أن يبطيء من حركة الأمور أو أن يتراجع، والنتيجة هي النكسة.
وفي عهد السادات، ودون لقاء مسبق مع فهمي، تقرر تعيينه سفيراً في ألمانيا الغربية. وقد حاول فهمي لقاء السادات قبل السفر لكنه اعتذر وفجأة وافق متأخراً والتقاه وتبادلا وجهات النظر حول نفس موضوعات ندوة الأهرام.
يقول فهمي:
«تركت السادات ولدي انطباعات مختلطة نوعاً ما عنه كإنسان؛ فكان يبدو رجلاً طبيعياً مخلصاً ذا شخصية مركبة بعض الشيء، ولكن ليست مرهفة التكوين، ويميل إلى قول أي شيء يمر بخاطره، ولكنه كان يبدو أيضاً معزولاً جداً، دون أية علاقة خاصة بأي شخص، لقد كان في الواقع لا يثق فيمن حوله بل لا يعطيهم حق قدرهم، وبدا أيضاً أنه ليست لديه أية أفكار واضحة عن السياسات طويلة المدى، بل كان يميل إلى أن يحيا يوماً بيوم أو لحظة إلى لحظة، حيث يتعامل مع المشاكل كل على حدة بمجرد ظهور كل منها، وأخلص من هذا إلى أنني تأثرت بصفاته الإنسانية أكثر من تأثري بعبقريته، وأصابني بعض القلق لما قد يحدث لمصر إذا استمر السادات على هذا المنهج».
بعد هذا اللقاء بفترة قصيرة أعلن عن تشكيل الحكومة الجديدة، واندهش فهمي حين اكتشف أنه عين وزيراً للسياحة، وكدبلوماسي محترف شعر بالاستياء؛ فلم تكن السياحة مسألة يهتم بها أو يعرف كثيراً عنها، وقرر رفض هذا التعيين، وسعى للقاء السادات، وعندما وصل اكتشفت أن السادات دعا الوزارة الجديدة بأسرها في نفس الوقت، ووجد نفسه في موقف حرج للغاية لأنه سوف يكون من الصعب رفض التعيين أمام الجميع.
تبادل السادات كلمات قليلة مع كل وزير متحدثاً عن واجباتهم الجديدة، وعندما أتى دور إسماعيل فهمي لم يقل له شيئاً عن السياحة، وقال فقط إنه سوف يكون مستشاره في القضية القومية ومبعوثه في مهام خاصة، واستبقاه عقب الاجتماع وقال له إن تعيينه وزيراً للسياحة كان مجرد غطاء وذريعة لإبقائه في القاهرة، لأنه لم يستطع أن يعينه وزيراً للخارجية لأن وزير الخارجية في ذلك الوقت كان في نيويورك، وهو لا يعفي أحداً من منصبه أبداً وهو في الخارج.
يقول فهمي عن منصبه في وزارة السياحة:
«في تلك الشهور اكتشفت شيئاً عن نفسي، وأهم من هذا عن بلدي فلم أكن قد سافرت داخل مصر كثيراً قبل تولي هذا المنصب. والآن ولأول مرة زرت الأقصر وأسوان، وقد أعجبت كثيراً وتأثرت بآثار تاريخنا القديم، وبالمثل قمت برحلة لأول مرة غرب الإسكندرية بالقرب من الحدود الليبية المصرية، واكتشفت مصدراً للجمال لم أكن أعرف بوجوده هناك؛ ولكنني شعرت بالحزن أيضاً لإدراكي أنني لست المصري الوحيد الذي يجهل بلاده؛ فغالبية المصريين لا يعرفون بلادهم كما ينبغي، فكثيرون يسافرون إلى الخارج قبل أن يتعرفوا على مصر نفسها، وبالنسبة لمعظم المصريين الذين يعيشون في القاهرة تتحدد معرفتهم ببلادهم من خلال رحلات المدارس إلى الأهرام والقناطر، وبالنسبة إلى من يعيشون في غير القاهرة فإن معرفتهم محدودة أكثر من هذا».
قبيل حرب أكتوبر تم تعيين فهمي في منصب القائم بأعمال وزير الخارجية، وعضواً في وزارة الحرب، فقام بدور وزير الخارجية محمد حسن الزيات، الذي كان يحضر –حينئذ- جلسات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وبصفته هذه أرسله الرئيس للتباحث مع الرئيس الأمريكي، نيكسون، ووزير خارجيته، هنري كيسنجر. وفي أواخر أكتوبر 1973، وفي أول الاجتماعات الحاسمة بعد الحرب، وبينما كان في طريقه إلى واشنطن أعفى السادات وزير الخارجية وعين فهمي بدلاً منه.
شكلت حرب أكتوبر 1973 نقطة تحول في تاريخ مصر وعلاقتها بالقوى العظمى، فقد تعرضت العلاقة مع الاتحاد السوفييتي لأزمة ثقة من أسبابها موقف الرئيس السوري، حافظ الأسد الذي طلب من الاتحاد السوفيتي أن يقترح وقف إطلاق النار رسمياً بمجرد أن تبدأ الحرب، ولم يبلغ السادات بأنه قدم هذا الطلب، كما نفى ذلك للسادات حينما أخبره السوفييت بهذا، ليظهر بمظهر الشجاع الذي يرفض وقف الحرب، ولم يصدق السادات كلام السوفييت في البداية مما أوغر صدورهم تجاهه.
يحكي فهمي قصة طريفة بهذا الصدد، وهي أن الولايات المتحدة وصلها أن السادات طلب مساعدة السوفييت عسكرياً، وحدث هذا بسبب أن سكرتير مقرب للسادات سمعه يقول شيئاً يمكن تفسيره بأنه طلب قوات سوفييتية، فشعر بالانزعاج وأبلغ زميل له في دولة عربية بأن السادات يسعى للحصول على تدخل سوفييتي، ونقلت هذه الرسالة من خلال القنوات العادية التي كانت قائمة بين الدولتين، ولما كانت هناك علاقة خاصة بين أحد المسئولين في هذه الدولة ووكالة المخابرات الأمريكية، علمت واشنطن بهذه الخطوة، وأصيب هذا السكرتير بالشك والندم فذهب يحمل مسدسه وأعطاه للسادات وقص عليه ما فعل، وبصورة مسرحية نوعاً ما طلب منه أن يطلق عليه الرصاص إذا كان قد تصرف بصورة خطأ، وفهم السادات الموقف وقد استشاط غضباً واكتفى بنصحه بألا يكرر ذلك مرة أخرى.
ويتساءل فهمي ما إذا كانت حرب أكتوبر نصراً أو هزيمة لمصر؟ ويجيب بأن الحرب بدأت بمجموعة من العمليات الناجحة لكنها انتهت وقد أصبح الجيش الإسرائيلي على الضفة الغربية، والجيش المصري الثالث محاصراً، ومدينة السويس معزولة، وأثبتت إسرائيل تفوقها، وهزمت مصر من الناحية العسكرية، لكنه يعترف بأن هذا الاستنتاج يعتبر تبسيطاً أكثر مما ينبغي.
كان وزير الخارجية الأمريكي –حينئذ- هنري كيسنجر، ورغم تألقه، منفذاً لسياسات الرئيس الأمريكي نيكسون. ولكن عندما تعرض الأخير لفضيحة ووترجيت، ولم يعد لديه مزيد من الوقت للشئون الخارجية، بدأ كيسنجر يظهر طبيعته، وأصبح له حرية التصرف باسم الولايات المتحدة، وحيث كان يدعي أنه صانع للسلام، ووسيط، كان في الواقع «يعمل لصالح إسرائيل طوال الوقت، ولا يدعو هذا إلى الدهشة حيث إنه يهودي، وكما قال لي بنفسه: كان أبواه من اليهود المتعصبين المتطرفين»، وليس ثمة شك في أنه نجح في تقديم عون ضخم لإسرائيل ليس فقط أثناء الحرب، ولكن أيضاً أثناء فترة المفاوضات التي تلت الحرب، ويلخص فهمي ذلك قائلاً:
«ربما كان من الأسهل أن نتعامل مباشرة مع الإسرائيليين إذا ما نظرنا إلى كل ما قدمه كيسنجر».
حاول كيسنجر الوقيعة بين الحكام العرب والسادات، وكان يسمي الرئيس المصري «زعيم العالم العربي» ليوغر صدورهم عليه، وكذلك الوقيعة بين مصر والاتحاد السوفييتي، وبالفعل أثمرت كل جهوده وتحقق الهدف منها لاحقاً، رغم أن إسماعيل فهمي تواصل مباشرة مع السوفييت منذ البداية وأبلغهم بمؤامرات كيسنجر الذي طلب منه عدم إطلاعهم على مجريات المباحثات، وظل هو يطلعهم يومياً عليها.
ومن أجل دفع السادات للتخلي عن السوفييت عرض عليه أن تعطيه واشنطن السلاح بشكل تدريجي، ووجد السادات متفائلاً، وبحسن نية أجابه: «أنا مستعد يا هنري، أنا مستعد»، بينما أسر أحد كبار المسئولين الأمريكيين لفهمي في وقت لاحق أنه ليس هناك أي أساس لما قاله كيسنجر الذي كان يريد ببساطة أن يخدر المصريين لتخريب محاولات تقوية علاقاتهم مع موسكو.
يتهم فهمي السادات بأنه «كان مهتماً بصورته الشخصية وعظمته بأكثر من اهتمامه بمصالح مصر»، ويستدل بقراره إعادة فتح القناة رسمياً في الخامس من يونيو 1975، وتنظيمه احتفالاً ضخماً، وقيادته ناقلة كبيرة من السفن في القناة، واعترض فهمي على اختيار هذا اليوم، وحث السادات على تأجيل إعادة فتح القناة حتى يتم توقيع اتفاق فك الاشتباك الثاني على الجبهة المصرية - الإسرائيلية، وكانت محاولات استكمال فك الاشتباك الثاني قد توقفت في مارس 1975، وكان ذلك ورقة إضافية للضغط على الأمريكيين والإسرائيليين لاستئناف المفاوضات في سبتمبر، وبدا السادات وكأنه قبل الاقتراح، غير أنه عاد في وقت لاحق إلى رأيه لأن الخامس من يونيو شهد في عهد عبدالناصر هزيمة مدمرة بسبب ضربة إسرائيلية، وباختيار فتح القناة في الذكرى السنوية للهزيمة أراد السادات أن يوضح أنه البطل الذي أعاد المصر كرامتها بعد الإذلال الذي عانت منه، فقد خسر عبدالناصر حرباً، واضطر إلى إغلاق القناة، بينما كسب السادات حرباً وفتحها.
ظلت كراهية السادات للسوفييت كبيرة دائماً، لأنهم قبل وفاة عبدالناصر لم يكونوا ينظرون إليه كخليفة مقبول له، وقد قص على فهمي حكاية مثيرة وقعت عام 1970 عندما كانت صحة عبدالناصر تتدهور بسرعة، فسافر إلى الاتحاد السوفييتي لإجراء فحص طبي شامل، وخلال مأدبة غداء أقيمت لتكريم الوفد المصري الذي يضم السادات، وجه رئيس مجلس وزراء الاتحاد السوفييتي، أليكسي كوسيجين، بطريقة غير دبلوماسية سؤالاً لعبدالناصر قائلاً، من هو الشخص الذي يخلفك في مصر؟ وقد انزعج عبدالناصر بشدة لطريقة السؤال التي لا تتسم باللباقة والتي في نفس الوقت تشير إلى أن السوفييت لا يعتقدون أنه سوف يعيش طويلاً، فتردد جمال عبدالناصر ثم أجاب: نائب الرئيس محمد أنور السادات، غير أن كوسيجين لم يقتنع بهذه الإجابة، وتساءل عمن يأتي بعد السادات، وهنا قال لي السادات: كان عبدالناصر يعرف ما يرمي إليه كوسيجن، لذلك أجاب: علي صبري، فشعر كوسيجن حينذاك بالرضا وتناسى المسألة، ولكن السادات الذي كان حاضراً فهم مغزى السؤال ولم ينسه أبداً.
لذلك كان السادات مع الأمريكيين هادئاً ومرناً، وكثيراً ما يتعمد استعمال عبارات الألفة والود والاستعداد التام لقبول أي اقتراح أمريكي دون تردد. وعلى العكس تماماً مع السوفييت كان أسلوبه هو الشك الشديد، والاستعداد لتفسير كل عبارة كهجوم ضد مصر، بل إن المقصود هو إهانته شخصياً.
حققت مصر نجاحات ملموسة في إصلاح علاقتها مع السوفييت، لكن بعد توقيع اتفاق فك الاشتباك الثاني تأكد السادات أكثر من أي وقت مضى أنه ليس في حاجة إلى الاتحاد السوفييتي، وأن الحل الكامل الفاصل النزاع الشرق الأوسط لا يمكن أن يأتي إلا عن طريق الولايات المتحدة، ولذا لم يفعل شيئاً من أجل التصالح مع الاتحاد السوفييتي، بل صعد حملة الهجوم الكلامي التي يشنها ضده، ورد عليه السوفييت بالمثل وتدهورت العلاقات بينهما على نحو مطرد.
وظل رأي فهمي أن هذا الموقف لم يكن له ما يبرره، وأنه ما كان ينبغي أن تعتمد مصر اعتماداً كلياً على الولايات المتحدة. ووصلت الأمور إلى حد إلغاء معاهدة الصداقة والتعاون بين مصر والاتحاد السوفييتي، وأوشك فهمي على تقديم استقالته لأنه رأى أنه من الخطأ اعتبار فتور موقفهم أمراً نهائياً، فكثيراً ما يعكسون قراراتهم.
وعلى العكس تماماً فإن إلغاء معاهدة الصداقة والتعاون أجبر السوفييت على إعادة تقييم الوضع في الشرق الأوسط ونفوذهم هناك، وبحلول أواخر عام 1976 كانوا قد خلصوا بوضوح إلى أنه ينبغي عليهم البدء في إصلاح جسورهم مع مصر، لكن السادات ظل لا يراهن إلا على واشنطن.
كان المبدأ الأساسي الذي التزمت به كل الدول العربية من خلال توقيعاتها الرسمية وأمام أعين شعوبها، وهو أنه ينبغي ألا تتخذ أي دولة قرارات من جانب واحد يكون من شأنها انقسام العرب وتقويض أسس تضامنهم، وكان مفهوماً أن أي خرق لهذا المبدأ العام السامي ستكون له آثار عكسية خطيرة على القضية العربية.
اكتسبت هذه القضية قوة والتزاماً لم يسبق لهما مثيل نتيجة حرب أكتوبر 1973، والتزمت الدول العربية بضرورة الانسحاب الإسرائيلي الكامل من الأراضي التي احتلت عام 1967.
وفي الواقع فإن السادات هو الرئيس العربي الوحيد الذي صرح علانية ومن تلقاء نفسه بموقفه من هذه النقطة المهمة؛ ففي أوائل عام 1977 ورداً على سؤال وجه إليه في مؤتمر صحفي عن مدى القيام بتطبيع العلاقات بين مصر إسرائيل، قال السادات على الفور، «ليس في جيلي».
اتفقت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي على عقد مؤتمر دولي للسلام في جنيف يضم كافة الأطراف، وكانت مسألة تمثيل الفلسطينيين هي المشكلة الأبرز، لكن تم الاتفاق على تشكيل وفد عربي موحد في المؤتمر.
سيطرت على السادات فكرة أن بإمكان الرئيس الأمريكي الجديد، جيمي كارتر، الضغط على إسرائيل لانتزاع تنازلات منها، لكن كارتر علق على هذه النقطة قائلاً لفهمي: «الرئيس السادات طلب مني مراراً ممارسة ضغوط كبيرة على إسرائيل، ولكني أريد أن تعرف أنني لا أستطيع أن أفعل ذلك، لأنه سيكون انتحاراً سياسياً شخصياً بالنسبة لي»، مضيفاً «بالمثل فإن الرئيس السادات كثيراً ما يحثني على أن أكون متشدداً مع الاتحاد السوفييتي»، وكرر أن ذلك يعد انتحاراً سياسياً آخر.
ويعقب فهمي:
«كم راعني أن أجد الرئيس كارتر على هذه الدرجة من الخوف والتردد، وإعطائه الأولوية الأولى لمستقبله الشخصي على قضايا الحرب والسلام المهمة في منطقة حساسة واستراتيجية مثل الشرق الأوسط. فأن يكون الرئيس الأمريكي ضعيفاً فهذا أمر سيئ بما فيه الكفاية، ولكن أن يكون مذعوراً فهذا أمر مرعب».
نقل فهمي في ما بعد إلى السادات كلام كارتر متوقعاً أنه سيفهم على الفور عدم إمكان الاعتماد على الولايات المتحدة، ليعيد النظر في تقييمه لدور الولايات المتحدة في عملية السلام، وبخاصة اعتقاده الثابت الذي ردده مراراً بأن 99.9% من التسوية النهائية يكمن في أيدي الولايات المتحدة. وبعد أن اعترف الرئيس کارتر شخصياً بمركزه وقدرات تحركه المحدودة، ما كان ينبغي أبداً أن يستمر الرئيس السادات في الاعتماد كلية على الولايات المتحدة باعتبارها شريكة رئيسية.
وكرر كارتر هذا المعنى في لقاء علني ضم دبلوماسيين أمريكيين ومصريين، قائلاً صراحة:
«نفوذي على إسرائيل يرتبط نسبياً بمدى ما أحظى به من تأييد من الرأي العام الأمريكي والكونغرس والدوائر اليهودية في هذا البلد، وأود أن أكون واضحاً كل الوضوح، ولذا أقول: إنه في غياب مثل هذا التأييد من الأطراف الثلاثة فإن قدرتي على التأثير على إسرائيل تكون محدودة».
ويشدد فهمي على أن الاقتراح الأمريكي للسلام كان قريباً جداً من الموقف المصري، بل إنه كان يتبنى في الواقع هذا الموقف كله تقريباً، ويرد بذلك على مزاعم أن الوضع الدولي كان كئيباً وميؤوساً منه للغاية وأن احتمالات السلام كانت بعيدة لدرجة أن الرئيس السادات لم يكن أمامه من بديل إلا أن يأخذ على عاتقه مسئولية التصرف بمفرده، ويكسر الجمود برحلته إلى القدس. وهذا كان أبعد ما يكون عن الحقيقة؛ فقد رفضت إدارة كارتر وجهة النظر الإسرائيلية للسلام، كما وردت في مشروع المعاهدة الذي عرضته إسرائيل.
وحتى أوائل خريف عام 1977 ظلت الأمور تتحرك بشكل منتظم في الاتجاه الصحيح، أي نحو عقد مؤتمر جنيف؛ حيث ستلتقي أطراف النزاع حول مائدة واحدة للتفاوض على تسوية سلمية، وقد كان يجري على قدم وساق الإعداد لهذا المؤتمر، وتم التشاور مع كل الأطراف، واتفقت القوتان العظميان على المبادئ الأساسية.
وأظهر ذلك كله أن هناك فرصاً عظيمة لنجاح المؤتمر، وكان هذا هو السيناريو السائد قبل قرار السادات الذي اتخذه من جانب واحد بالذهاب إلى القدس، وعمد إلى إخفاء نيته عن كارتر؛ لأنه كان سيعارض ذلك. وفي حين أن هذه نقطة رئيسية فإن فهمي يؤكد أنه لم يجد أحداً ناقشها في أي كتاب أو مقالة تعالج خلفية زيارة السادات للقدس، باستثناء كاتب مقال أجنبي موال للصهيونية ذكرها بطريقة ماكرة.
لم يفاتح السادات أحداً بنواياه عدا وزير الخارجية، كما اعترف بذلك في كتابه «البحث عن الذات» وذكر أنه كان ضد مبادرته منذ البداية. وكان رفضه التام مبنياً على اقتناعه بأن هذه زيارة السادات للقدس ستؤثر تأثيراً عكسياً على الأمن القومي المصري، وعلاقة مصر بالدول العربية، ولم يستطع السادات أن يقنعه بأن فوائد الرحلة إلى القدس سوف تفوق نتائجها العكسية، أو أن الإسرائيليين سوف يستجيبون إلى التحرك المصري بقدر مماثل من النية الطيبة.
وقع ذلك خلال زيارة الرئيس المصري إلى رومانيا، في قصر الضيافة في قرية تسمى «سيناء»، ويقول فهمي:
«لم نكن نطير فوق تركيا متجهين إلى إيران أو نعبر الجبال كما قال السادات في مناسبات عدة وكما كتب في كتابة البحث عن الذات، كل ما في الأمر أنه أراد تغليف مبادرته المزعومة بهالة من الغموض مثال ذلك: أن السادات قال لديان: إن الفكرة تبادرت إلى ذهنه بطريقة روحانية بينما كان يطير فوق السحب. وعندما سأله ديان: متى كانت المرة الأولى التي خطرت إليك فيها فكرة زيارة القدس؟ أجاب السادات: عندما كنت في طريقي لزيارة شاه إيران، لقد هبطت علي فجأة وأنا أطير فوق تركيا في طريقي إلى طهران. كنت أبحث عن أي شيء يخلق موجات غير طبيعية لها مفعول الصدمات بشرط أن تكون إيجابية».
ففي 29 أكتوبر 1977 بدأ الرئيس السادات وهو لا يزال في ملابس النوم يتحدث مع فهمي عن محادثاته مع الرئيس تشاوشيسكو وخطة بيغين للسلام ثم أعلن فجأة قائلاً، أود أن أعرف ما رأيك في رحلة خاصة إلى القدس وإلقاء خطبة في الكنيست؟ وهنا لا بد أن أعترف أنني أخذت على غرة، واستمرت المناقشة بيني الرجلين ما يقرب من ثماني ساعات دون توقف.
وسأل فهمي:
«وما الغرض من هذه الرحلة؟! فأجابني السادات: لا شيء إلا الذهاب فقط إلى القدس وإلقاء خطاب ثم العودة. وهنا ذكرت السادات بأنه ليس لدينا إلا كارتان نلعب بهما! أحدهما الاعتراف بإسرائيل، والثاني إنهاء حالة الحرب، وبما أن إسرائيل تتفوق على مصر وغيرها من البلاد العربية من الناحية العسكرية، فإننا لن نستطع أن نهدف إلى انتصار عسكري، فوافقني، وهنا أضفت قائلاً: لو أننا ركبنا طائرة وذهبنا بها إلى القدس؛ فهذا عمل ينطوي تلقائياً على الاعتراف بإسرائيل وإنهاء حالة الحرب. نحن نلعب بكارتين أساسيين في السياسة دون أن تجني أي شيء، فالمكسب كله سيعود لمصلحة إسرائيل، كما تتضاعف قوتهم في المساومة، كذلك فإننا سنثير ثائرة العرب والفلسطينيين، كما أننا لن نستطع التقهقر إذا ما ذهبنا إلى القدس، ولن يكون هناك مجال لنكث العهد يا سيادة الرئيس، بل إننا سنكون في مركز حرج يمنعنا من المناورة، لندفع إسرائيل إلى الوصول إلى حل شامل».
يستكمل فهمي:
«استمع إلي السادات بيقظة وبكل أناة وصبر، ولكنه كان متوتراً وعندما حضر فجأة جمال، ابنه الوحيد، إلى الغرفة ونحن على انفراد صرخ فيه غاضباً وطلب منه الخروج من الغرفة، ثم أجاب الرئيس: بأنه يوافقني تمام الموافقة، غير أنه يعتقد أن رأيه هذا قد يفضح نوايا إسرائيل الحقيقية، أجبته قائلاً، ولكن هذا في رأيي لا يمكن أن يؤسس هدفاً أساسياً، كما أنه لن يؤدي إلى سلام الذي نعمل جميعاً من أجله. حقاً يا سيادة الرئيس إن زيارتك هذه قد تحرج إسرائيل أمام الرأي العام العالمي، ولكن لفترة محدودة. لذلك فتأثير هذه زيارة سيتلاشى تدريجاً ما لم نضطر إلى توقيع معاهدة سلام منفصلة وبشروط إسرائيلية خاصة محددة بمشكلة سيناء، وهنا تناقشت في أنه لو كان هدف الذهاب إلى القدس هو عودة سيناء، هذا أمر غير ضروري، فسيناء لم تكن ولن تكون مشكلة أبداً، فالإسرائيليون يعرفون تمام المعرفة أنه لن يكون هناك سلام في المنطقة ما لم ينسحبوا تماماً من هذه الأمكنة، كما أن ثلاث إدارات أمريكية متتالية تعلم هذه الحقيقة، والدليل على ذلك أن المسودة الأمريكية لمعاهدة السلام بين مصر وإسرائيل اشترطت بوضوح انسحاب إسرائيل من سيناء».
وعرض فهمي خطة بديلة تتضمن عقد مؤتمر عالمي في القدس يحضره العرب والسوفييت والأمريكان، فوافق الرئيس، والتزم فهمي بكتابة مسودة المشروع على هيئة رسالة من الرئيس إلى الأطراف المعنية، على أن ترسل في نفس الوقت إلى كل من سيدعى إلى المؤتمر، ووافق الرئيس وطلب مسودة للفكرة، وبدا كأنه قد انصرف عن فكرة الذهاب إلى القدس.
ولما انصرف بعد ثماني ساعات وجد أسامة الباز مدير مكتبه والدكتور محمد البرادعي، المستشار القانوني بوزارة الخارجية، ينتظرانه بفارغ الصبر، فقص عليهما ما سمعه من الرئيس، فانفجر الباز قائلاً: هذا جنون؛ لا شك أن الرجل غير متزن. لا بد من منع ذهابه إلى القدس حتى ولو استعملنا القوة، ولم يختلف اعتراض البرادعي لكنه كان أقل حدة.
وعند العودة إلى القاهرة في 4 نوفمبر 1977، أعطى وزير الخارجية تعليمات للباز والبرادعي للبدء في إعداد دعوات الرئيس إلى مؤتمر القمة العالمي المنعقد في القدس الشرقية، وكانت جميع الرسائل مجهزة في هذا اليوم، واستدعاه السادات، وقال إنه مضطر إلى إخبار صديقه الرئيس كارتر قبل الآخرين، واعترض كارتر ولم ينفذ المقترح.
وصل إلى القاهرة بين الخامس والتاسع من نوفمبر ثلاثة خطابات متناقضة من واشنطن؛ خطاب من كارتر يدل على الثقة في مؤتمر جنيف ويطلب من السادات ألا يدعو لقمة القدس الشرقية، وخطاب ثان من كارتر يدل على وجود مشاكل بالنسبة للحصول على التزامات السوريين والفلسطينيين بمؤتمر جنيف، وثالث من وزير الخارجية الأمريكي سيروس فانس، يدل دلالة واضحة على أن مؤتمر جنيف في طريقه إلى الانعقاد.
يقول فهمي:
«نوه السادات بأن هناك شيئاً غير عادي في رسالة كارتر الثانية، ليخلق انطباعاً على نحو ما بأن هناك صلة بينها وبين الذهاب إلى القدس، كذلك ادعى بأن هذا الخطاب لم يقرأه إنسان آخر إلا هو، وهذا كله غير صحيح، فالخطاب لم يحتوِ على شيء سوى التماس للسادات بأن يؤثر على الأسد والمنظمة، والسادات بنفسه سلم إلي هذا الخطاب، وقرأته. والمشكلة عند الرئيس السادات هي ميله إلى خلق جو درامي وإعطائه أهمية غير عادية، وكثيراً ما توهم أشياء لم تحدث مطلقاً ثم يلقي بيانات متعارضة تماماً؛ ومن بين خيال السادات الجامح ادعاؤه أن رده على خطاب كارتر كان رداً خاصاً، وأنه هو وحده كما كان يقول الذي يعلم محتوياته، وفي واقع الأمر أنني أنا الذي أعددته له، وقد قام بنسخه بخط يده ليتماشى مع الأصول الدبلوماسية».
إجمالاً، يبرر فهمي استعراض أحداث سنواته الأربع بأنه لا يمكن فهم دوافع استقالته وقرار السادات بالسفر إلى القدس وعواقبه دون النظر إلى الأحداث التي وقعت في السنوات السابقة؛ إذ لم تكن الرحلة إلى القدس بداية محاولة تحقيق السلام، «بل على العكس من هذا لقد كانت تحركاً غير رشيد في لعبة معقدة وطويلة».